موعظة عن العمر
حقيقة العمر الذي يعيشه الإنسان :
﴿وَالْعَصْرِ* إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ*إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا
الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾[ سورة العصر: 1-3]
ما هي خسارته؟
إنَّ مضيُّ الزَّمن يستهلك الإنسان، فالإنسان أحياناً يتوهَّم أنَّه صَغرت سِنُّه إذا عدَّ عمرهُ عدًّا تصاعدِيًّا، يقول لك: كبرتْ سِنِّي، أما إذا عدَّ عمرهُ عدًّا تنازليًّا، يقول: كم بَقِيَ لي؟
الإنسان إذا سأل هذا السؤال وقَع في حرجٍ، هل بقيَ بِقدْر ما مضى؟!
إذاكان الذي مضى مضى كلَمْح البصَر فالذي بقي إذا كان أقلّ مِمَّا مضى سيَمضي بأقلّ مِن لمْح البصر، ثمّ يفاجأ الإنسان انَّه أمام عمله، إن خيرًا فخير،وإن شرًّا فشرّ، فالعُمر هو ظرف العمل، فعملك الصالح أو السيئ له ظرفٌ هو العمر، وربنا عز وجل قال:
﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ ﴾[ سورة فاطر: 37 ]
فالله عز وجل عمَّر لنا العمر المناسب، لأنَّ موت الإنسان أخطر حَدَثٍ في حياته،لأنّه انتقال كُلِّي مِن دارٍ إلى دار، وخَتْمُ العمل، وإغلاق باب العمل، لا يوم وِلادته، ولا يوم زواجه، ولا يوم وفاته، والدليل قوله تعالى:
﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً ﴾[ سورة الملك: 2 ]
بدأ بالموت، وهو تقديم أهمِيَّة، ففي البدايات هناك خِيارات عديدة جدًّا أما هو الذي خلق الموت والحياة، فالموت مُحدَّد والأجل محدَّد، قال تعالى:
﴿ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ ﴾[ سورة الأعراف: 34]
ومـع أنـَّهُ محدَّد هو أنسـب عمرٍ للإنـسان، إذا كُشِفَ الغطاء يـوم القيامـة عن حكمةالعمر الذي عاشه الإنسـان لا يملك إلا أن يقول: الحمد لله رب العالمين، لأنَّ كلّ شيءٍ وقع أراده الله، وكلّ ما أراده الله وقَع، فهل يقعُ الموت من دون إرادة الله؟! حتى القاتل إذا قتل إنسانًا، هذا الإنسان منوطٌ بأجله،وقد ذكرتُ مثالاً عن بستان في الزَّبداني، زُرِعَ فيه أشجار تُفاح، الشَّجرة الخامسة، في الفرع الثالث، في الغصن كذا، التفاحة الخامسة هي لِفلان !! أما فلان من الناس باخْتِياره أن يُحدِّد طريقة وُصول هذه التُّفاحة إليه، فـقد يشتريها بِماله، وقد يسرقها وهي له، وقد يأكلها ضِيافةً وهي له، وقد يتسوَّلها وهي له، فهذه كلّها طرق، وهي له،وكذا الموت مُحَدَّد، فقد يموت على فراشه، وقد يموت قتلاً، وقد يموت بمَرضٍ، وقد يموت بحادِث، والنُّقطة الدقيقة أنَّ الأسباب تنوَّعَت، ولكنَّ الموت واحدٌ!
العبرة بمضمون عمر الإنسان لا بطوله أو قصره :
قد يقول قائل: كيف يُحاسب القاتل على فعلته؟ يحاسب لأنَّه أقْدم على قتْل إنسانٍ بِغَير حقّ، فالقاضي إن حكم على المجرِم بالإعدام وفق أحكام الشريعة، هل يُحاسب القاضي عند الله؟!لا،لأن التوحيد لا يُلغي المـسؤوليَّة، لو أنَّ طبيبًا أخـطأ مع مريض، ومات المريض، فالذي قال: من طبَّب ولم يُعلم منه طبّ فهو ضامن، يجب أن يدْفع الدِّيَّة، فالمريض مات بأجله، ولكن نقول لهذا الطبيب: لا علاقة لك بالتوحيد، فأنت محاسب ومُقصّر ! ونقول للقاتل: قتلْتَ نفسًا بِغَير نفسٍ، فالعمر هو ظرف عمل الإنسان، إلا أنَّ العمر أنواع: فالعمر الزَّمني لا قيمةله إطلاقًا، ففي التاريخ الإسلامي نجد علماء كباراً تركوا آثاراً مذهلة، وعاشوا أقلّ من خمسين عامًا كالإمام النَّووي رحمه الله تعالى، وهناك قادة فتحوا آسيا وعاشوا أقلّ من ثلاثين عامًا، وهناك أعمار تافهة كأن يعيش ثمانين سنة من دون عمل صالح، ولذلك الله عز وجل في آية وحيدة أقْسم بِعُمر النبي عليه الصلاة والسلام في قوله تعالى:﴿ لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ﴾[ سورة الحجر : 72]لأنَّ عمر النبي علـيه الصلاة والسلام ثمين، فهو في مدَّة يسيرة قلب وجه الأرض، ورسَّخ التوحيد في الأرض، والفضيلة والسعادة والقِيَم، فإيـّاك أن تقيس العمر زمنِيًّا فهو لا قيمة له إطلاقًا قال تعالى:﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾[ سورة العصر: 1-3]
قال الحسن البصري: " ما من يوم ينشقّ فجره إلا ويُنادي يا بن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوَّد مِنِّي فإني لا أعود إلى يوم القيامة" وعقارب الزَّمن لا يمكن أن ترجع ! فأنت بين يوم مضى، والحديث عنه لا جدوى، وبين يوم سيأتي لا تملكُهُ
الموت يأتي بغتةً والقبر صندوق العمل :
قال تعالى:﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾[ سورة آل عمران: 102 ]الموت يأتي بغتةً، والقبر صندوق العمل﴿حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَقَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ﴾[ سورة المؤمنون: 99-100]
الإنسان بين خمسة أيام :
نحن الآن في بحبوحة، والقلب ينبض، وتؤدِّي زكاة مالك، وتؤدِّي الحقوق التي عليك، اغتصَبت مال الورثة، هذا كلّه محاسب عليه فانْتَبِه وأدِّ ما عليك لأنَّ العمر محدود، ولا يوجد تأخير، فالمقتول يموت بِأجله والقاتل يُحاسب كَقاتِل، هكذا عقيدة أهل السنة، لذا أنت بين خمسة أيام ؛ ويوم مفقود، ويوم مشهود، ويوم مورود، ويوم موعود، ويوم ممدود، فالمفقود هو الماضي، والمشهود الحاضر، والمورود الموت، والموعود يوم القيامة، والممدود إما في جنَّة إلى أبد الآبدين، وإما في نار إلى أبد الآبدين، وأخطر هذه الأيام هو اليوم المشهود الذي تشهدهُ، لا تقل: سوف ! أدِّ الذي عليك في الحاضر، ولا تُسوِّف، فلا تمت وأنت متلبّس بِمَعصية، والإنسان كيف أمضى عمره يجعل طريقة موته تلخيصًا لِعُمره كلِّه،لذلك قالوا: صنائع المعروف تقي مصارع السوء.
راتب النابلسى
موسوعة النابلسى للعلوم الشرعية